النثر: إشكالية النشأة

يعزو الجاحظ إلى الرقاشي القاص والخطيب والسجّاع قوله بغزارة النثر العربي القديم استناداً لما أورده على لسانه من أنّ ((ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون فلم يحفظ من المنثور عشره ولا ضاع من الموزون عشره))29 وهو قول يؤكد في الوقت نفسه ضياع معظم ذلك المنثور. بيد أن أمر البحث فى نشأة النثر العربي القديم لم يلفت اهتمام القدماء إلاّ شذرات عابرة وردت في سياق لا يمكن التحقق من واقعها التاريخي، لأنها تقدم وجهة نظر أكثر مما تسعى لإقرار حقيقة تاريخية. وإن كان مؤداها يطابق النظر العقلي، ويتفق مع التصور التاريخي لتشكيل الأنواع الأدبية.

قال ابن رشيق ((كان الكلام كلّه منثوراً، فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعرافها، وذكر أيامها الصالحة، وفرسانها الأبجاد، وسمحائها الأجواد، لتهّز أنفسها إلى الكرم - وتدلّ أبناءها على حسن الشيم... فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تمّ لهم وزنه، سموه شعراً، لأنهم شعروا به، أي فطنوا))30.

ويذهب هذا المذهب كاتب آخر هو النهشلي، فيقول على لسان بعض علماء العربية إنّ:

((أصل الكلام منثور... ولما رأت العرب المنثور يندّ عليهم، وينفلت من أيديهم، ولم يكن لهم كتاب يتضمن أفعالهم، تدبروا الأوزان والأعاريض فأخرجوا الكلام، أحسن مخرج بأساليب الغناء، فجاءهم مستوياً ورأوه باقياً على مرّ الأيام فألّفوا ذلك وسموه شعراً))31.

يفهم من ابن رشيق والنهشلي أنّ الكلام العربي في أول أمره كان منثوراً وأنّ سببين اثنين دفعا العرب لتطوير بعضه إلى شعر.

أولهما: حاجتهم إلى التغني بمكارمهم وذلك لاّ يكون إلاّ بأقوال شعرية تنتظم في أعاريض تمنح تلك الأقوال تأثيراً في أثناء الإنشاد.

وثانيهما: أنّ المنثور كان يفلت منهم ويندّ عليهم، ويضيع من بين أيديهم فلا تحفظه ذاكرة ولم يكونوا قادرين على كتابته لعدم توفر إمكانات الكتابة، الأمر الذي دفعهم إلى تدبّر نظم إيقاعية تيسّر لهم حفظ الكلام، فاجترحوا الأوزان والأعاريض التى تقوم في الشعر مقام الكتابة في النثر فتؤدي وظيفة خزن الكلام وحفظه، لأنه سيكون منظوماً في أوزان تسهّل إذا روعيت في الإلقاء، استدعاء الكلام.

وبظهور تلك الأعاريض تحول نمط من الكلام من النثر الى الشعر، ويصعب القول أنّ تلك الأعاريض ظهرت فجأة بوصفها لحظة انتقالية حاسمة في تاريخ القول الأدبي، فلابد أن تكون تطورت عن نظم إيقاعية أقل انضباطاً. وأنها صقلت بالممارسة والتجريب إلى أن اتسقت فيما يعرف بالأوزان الشعرية المعروفة.

فإذا عرضنا الأدب العربي لوجهة النظر هذه، وعالجنا الأمر برؤية تاريخية، فإنّ الصيغة الأسلوبية التى تطورت عنها الأعاريض لا يمكن ألاّ أنّ تكون ((السجع))32. فهي صيغة قولية شفاهية شبه موزونة، استأثرت بمعظم ضروب التعبير النثري في العصر الجاهلي، واعتمد عليها القرآن بوصفها أكثر الصيغ تواتراً فيه وهيمنتها في الخطاب القرآني دليل على اطرادها في ضروب التعبير النثري الأخرى، وعن الصيغة السجعية ظهرت الأعاريض البسيطة التي يعد ((الرجز)) أكثرها وضوحاً، وهو نوع من النظام الإيقاعي البسيط الذي يرتفع قليلاً في انضباطه عن مستوى إيقاع السجع، وفيه تتردّد تفعلية واحدة على نحو بسيط يخلو من التركيب الإيقاعي المعقّد. وتبدو علاقة السجع بالرجز أكثر من ممكنة، فالأخير ألصق بحور الشعر بالكلام العادي وأقربها اليه، فاعتماده على تفعيله واحدة مكررة، وكثرة الزحافات التى تطرأ عليه في العروض والضرب، وإمكانية الارتجال فيه، وسمة القصر التى عرفت في المقطوعات الشعرية الجاهلية التى جاءت فيه، والتزامه وحدة الحرف أو الحرفين أو الثلاثة الأخيرة كما تجلّت في الأراجيز الجاهلية، وخاصية الاضطراب المعروفة فيه كونه يأتي مشطوراً أومنهوكاً أو مجزوءاً(34)، كل هذه الخصائص تجعل علاقته بالسجع ممكنة، فهو في التحليل الأخير نوع من السجع الصافي الذي تخلصّ من العثرات العادية المتوطنة في الكلام المنثور، وارتفع إلى صيغة أكثر انضباطاً من غيرها من صيغ النثر، وعلى أي حال، فالرجز يشد القول الأدبي إلى إيقاع مهجّن من النثر والشعر ويبدو التعسف واضحاً في الأراجيز التى مازالت مترددة وضائعة الهوية بين إيقاع ((شعري)) ومقاصد نثرية.

كان بروكلمان قد أكدّ أن أقدم القوالب الفنّية العربية هو السجع، أي النثر المقفّى المجرّد من الوزن، ويضيف أن تلك القوالب ترقّت إلى الرجز، ومن الأخير نشأت أبحر الشعر العربي، وفي إشارة واضحة منه إلى اقتران السجع بالنثر الديني، يقول: إنّ السجع هو القالب الذي كان يصوغ العرافون والكهنة فيه كلامهم وأقوالهم33، ويدعم هذا الرأي ما قاله ((غولد زيهر)) من أنّ السجع كان أسبق شكل من أشكال التعبير، وهو يسبق الأراجيز والقصائد وأنّ الرجز تطوير له، وقد شاع استعماله في الخطابة والعبارات ذات المحتوى الديني الميتافيزيقي34. وهذا التصور الذي يرى أنّ الشعر إنما هو تطور عن صيغ سجعية، تطورت هي الأخرى عن الكلام العادى، يخالف القول الشائع بين الدارسين ومفاده الإقرار بأوليّة الشعر، وهو الرأي الذي أشاعه في أوساط الدارسين العرب المستشرق نالينو35، وجاراه فيه طه حسين36. ويبدو أنّ الأصل الذي انبنى عليه هذا الرأي قول أرسطو ((إن الاولين إنما كانوا يقررون الاعتقادات في النفوس بالتخييل الشعري، ثم نبغت الخطابة بعد ذلك فزاولوا تقرير الاعتقادات في النفوس بالاقتناع))37.