تيس عزازيل د يوسف زيدان

والمدعو الآب يوتا ووثيقة بحيرا الراهب ووفاء قسطنطين

القمص عبد المسيح بسيط أبو الخير

كاهن كنيسة السيدة العذراء الأثرية بمسطرد

مقالة نشرت بجريدة صوت الأمة يوم الاحد الموافق 12-10-2008

 

قرأت، بل ودرست، رواية عزازيل للدكتور يوسف زيدان، وجرى بيننا حوارين الأول بيني وبينه فقط في قناة الحياة، والثاني في برنامج العاشرة مساء على قناة دريم، وكان معنا في اللقاء الثاني كل من الدكتور يحي الجمل الفقيه الدستوري والدكتور وسيم السيسي المتخصص في المصريات، وكان الحوار واضح ودار في إطار ثقافي علمي أعلنت فيه رؤيتي ككاهن مسيحي بأسلوب أدبي علمي وأكدت على أن الكنيسة لا تصادر الكتب ولا ترفع قضايا ضد كاتب أو كتاب وإنما من حقها الرد والتعليق على ما يكتب عن العقيدة المسيحية وتاريخ الكنيسة المسيحية لتوضيح الحقيقة من وجهة نظرها وكما تؤمن بها. وعبّر كل منهم عن وجهة نظره بطريقة حضارية، وكان لقاء رائعاً خرجنا منه في حالة من الود والصداقة، وكان رد الفعل في اللقاءين لدى المشاهد المسيحي والمسلم جيد جدا. وكلمني الكثير من الأحباء والأصدقاء المسلمين والمسيحيين وهنئوني على ما دار في البرنامج، ولم يغضب من كلامي مسلم واحد، ولم يقل لي مسيحي واحد لماذا لم تقل كذا أو كذا، وكما وصلني من بعض الصحفيين وأصحاب مكتبات الكتب أن معظمهم مع موقفي من الرواية، وبالمناسبة الحلقيتين موجودتين على النت لمن يريد أن يشاهدهما، سواء في موقعي أو موقع الدكتور يوسف زيدان وبعض المواقع الأخرى. وكنا نتمنى أن يتوقف الموضوع عند هذا الحد، خاصة أنني أعد كتاب للتعليق على الرواية أدبيا وتاريخيا وعقيديا، فكل شيء يجب أن يرد عليه بحسب أسلوبه وموضوعه. ولكننا ومع الأسف فوجئنا بشخص، مجهول الهوية، على النت، يكتب باسم الأب يوتا، لا نعرف من هو ولا يمكن أن يكون أحد الكهنة الأقباط، فهذا ليس أسلوب واحد من المعروفين منهم، وربما يكون غير مسيحي يريد أن يصور الأقباط بصورة تختلف عن طبيعتهم وشخصيتهم وطابعهم التاريخي في علاقتهم بأخوتهم المسلمين، وعن تعاليم إنجيلهم. وقرأت كتابته والتي اسماها " تيس عزازيل في مكة " والتي لا يمكن أن تكون أبدا أبداع فني بل هي نوع من الجدال الديني الواضح، الذي لا يقوم على المبدأ الإنجيلي القائل " مستعدين دائما لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم بوداعة " (1بطرس 3: 15)، ولا المبدأ القرآني القائل: " وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ " (العنكبوت: 46)، وقد حاول فيها تقليد رواية د يوسف زيدان، متصورا أنها هجوم إسلامي على المسيحية، فقال " أناشد كل مسلم يقرأ هذه الرواية أن يضع نفسه مكان أي قبطي يهان في عقيدته ومقدساته ولابد أن يشعر بنفس الشعور كما أناشد أي مسلم يشعر بالغضب أن يوجه غضبه للمتسبب الأصلي فيما حدث وأقصد مؤلف رواية عزازيل الدكتور يوسف زيدان وكل من يتعمد الإساءة إلى الأقباط ومقدساتهم 000 وفكرة الرواية مأخوذة من مخطوطة الراهب بحيرة ومن مخطوطات أخري كتبت علي رق جلد التيس عزازيل وجدت في مكة ومصادر أخرى كالقرآن والأحاديث والسيرة المحمدية ".

وهنا أضع أربعة أسئلة نبي عليها مقالتنا هذا، وهي؛ (1) ما هو الأسلوب المسيحي الإنجيلي للرد على مثل هذه الرواية وعلى ما نرى أنه يسيء للمسيحية؟ (2) ما هو منهج الدكتور يوسف زيدان ومنطقه الفكري وهل يمكن أن تحسب روايته على علماء المسلمين أو حتى المتطرفين من المسلمين؟ (3) ما هي وثيقة بحيرا الراهب وما مدى مصداقيتها؟ (4) ما هو موقف قداسة البابا والكنيسة ككل من أمثال هذه الكتابات؟

وأبدأ كلامي عن قداسة البابا شنودة والذي لا يمكن أن يزايد أحد على مواقفه الوطنية بشكل عام ولا عن صداقاته وعلاقاته بالأخوة المسلمين ووحدة الشعب المصري ولا يمكن لأحد أن يأخذ عليه لفظ واحد قاله ضد الإسلام أو المسلمين، بل أنه كرر لي شخصيا في أكثر من لقاء قوله " أوعى تسيء للمسلمين، أوعى تسيء للإسلام، أوعى تسيء لنبي المسلمين، ركز جيداً في شرح العقيدة المسيحية، تكلم بحكمة ". وله قول شهير ومعروف ومكرر في مواقف كثيرة وهو: " لو أننا شرحنا عقيدتنا لأولادنا جيدا فلن نحتاج للهجوم على أحد، البيت المبني على الصخر لا يخشى من الزوابع والأعاصير، ونحن كنيستنا مبنية على الصخر ". وبالتالي لا يمكن أن يوافق على الإساءة لأي أحد أو دين. وهو شخصيا، برغم كثرة الهجوم على شخصه إلا أنه لم يهتم بالرد ولو مرة واحدة. وعندما صدرت رواية عزازيل وبدأ البعض يتكلم عنها في الصحافة كان قداسته في بداية علاجه وخارج الوطن، وقد قمنا بالرد الفوري عليها في مجلة روز اليوسف وفي مقال أكبر على النت، وفي قناتي الحياة ودريم. وعندما كتب المدعو بالأب يوتا " تيس عزازيل في مكة " والتي انتهى من كتابتها في 24 أغسطس 2008م ووضعها على النت ولم ينشرها ككتاب مطبوع، والنت يكتب عليه من يشاء وكما يشاء وبأسماء مستعارة لا يمكن أن تعرف من هو صاحبها!! لذا لم يتابعها أحد ولم يهتم بها إلا عدد قليل من الذين يتابعون مثل هذه الأمور على النت، وهؤلاء معتادين على مثل هذه الأمور ولا يأبهون بها، ولم يعرف عنها العامة من الناس أي شيء!! ولم يعرف عنها قداسة البابا ولا الآباء الأساقفة بل ولا الكهنة أي شيء لأنهم جميعا مشغولين بما هو أهم من مجرد مقالة كتبها مجهول على النت!! وهنا نلوم جريدة صوت الأمة على نشرها لمثل هذا الكلام على الملأ في حين أن الذي قرءوه على النت أعدادهم قليلة ومعتادين على مثل هذه الأمور فلم يعرها أحد شيء بالمرة!! ونعتب على الجريدة ونقول لكل الكتاب فيها هل قرأتم ما هو مكتوب على النت من سب وتجريح للمسيحية وكل عقائدها؟ هل قرأتم ما هو مكتوب عن قداسة البابا من سب واتهامات باطلة وتجريح بلا وازع من منطق أو ضمير إلا التجريح؟ أم أن المسألة انتقائية؟ أم هي مجرد إثارة لجذب القراء للجريدة على حساب وحدة الشعب المصري؟ هل تصديتم للدكتور زغلول النجار الذي سب الكتاب المقدس ووصفه بالمكدس!! بل وقال في إحدى المجلات " ركاكة وبذاءة ما يسمى بالكتاب المقدس "، وفي معظم مقالاته وكتاباته وأحاديثه التلفزيونية يسب المسيحية بتلقائية تدل على أنه واثق جداً أن أحد لن يحاسبه على كلامه!! وكذلك تحريضه الواضح والعلني على الفتنة الطائفية ومحاولته تحريض عامة المسلمين على رجال الدين المسيحي والرهبان والأديرة باتهاماته الباطلة التي لا يقدر أن يقدم دليل واحد عليها، وهو يقول كعادته؛ سمعت! عرفت! قيل لي! أنا متأكد مما أقوله، وكأنه يوحى إليه!! وأن كنا لا نعرف من الذي يوحي إليه؟؟!! مثلما يفعل في موضوع وفاء قسطنطين وإدعائه الكاذب وقوله أنها قتلت في الدير لأنها، كما أوحى له عزازيل د يوسف زيدان، رفضت أن ترتد عن الإسلام وتصلي الصلاة المسيحية!!؟؟ ونحن نقول لفضيلته: إلا يعلم جهاز الأمن المصري وهو من أقوى الأجهزة الأمنية في العالم مكان السيدة وفاء قسطنطين ألم يتابعها في كل تحركاتها منذ موضوعها الشهير إلى المكان الموجودة فيه الآن؟ إلا يعرف أين هي وما هو مصيرها؟ إلا يقف رجال الشرطة أمام بوابة كل دير وكل كنيسة ويعرفون دبة النمل داخل كل دير وكل كنيسة؟ الأمن في مصر لا يخفي عليه خافية، فهل قتلت والأمن يتفرج على ما يحدث؟؟!! أنها تعيش الآن في الدير كأي راهبة مسيحية، والكنيسة تبحث الآن في كيفية ظهورها. فظهورها سلاح ذو حدين فقد يبطل الكلام الباطل الذي يقال عنها كذبا وتدليساً، وفي نفس الوقت أيضا قد يجرح شعور بعض الأخوة المسلمين عندما تعلن عن تمسكها بإيمانها المسيحي وأنها تعيش أجمل أيام حياتها كمسيحية تعيش حياة رهبانية. ثم نسال سؤال؛ وهو: هل ستحل كل مشاكل مصر عندما تظهر وفاء قسطنطين؟؟!! هل سننتصر في كل معاركنا السياسية والاقتصادية والرياضية والأدبية 00 الخ ونكون سادة للعالم ويرتفع صوتنا أعلى من إيران أو روسيا ونوقف أمريكا عند حدها عندما تظهر وفاء قسطنطين؟؟ هل ستختفي إسرائيل من الوجود ويعود الفلسطينيين إلى أرضهم السليبة عندما تظهر وفاء قسطنطين؟؟!!

ونعود لتيس عزازيل في مكة ونؤكد أن هذا الأسلوب الذي كتبت به مرفوض تماما ولا يتفق لا مع الفكر المسيحي ولا الأخلاقيات المسيحية، فليس من سمات المسيحية ولا تعاليم الإنجيل الإساءة للآخر، فقد تعامل المسيح مع المرأة السامرية وبرغم أنها زانية ومختلفة مع اليهود في الجنس والعقيدة، إلا أنه لم يسيء إليها مطلقا فقد تركها تحكي عن نفسها بنفسها ولم يسيء لها كسامرية ولم يسيء للسامريين، وهكذا في كل تعاملاته، فهو القائل: " كونوا حكماء كالحيّات وبسطاء كالحمام " (مت10: 16). وليس من حكمة الحيات وبساطة الحمام الإساءة لأحد أو اكتساب عداوة أحد مهما كان وبصفة خاصة أخوة الوطن. كما قال: " أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم " (مت5: 44)، ولكن أخوة الوطن ليسو أعداء بل أخوة وأحباء، كما يقول الكتاب المقدس أيضاً: " لا تجازوا أحدا عن شر بشر. معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس. أن كان ممكنا فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس" (رو12: 17و18)، " انظروا أن لا يجازي احد أحدا عن شر بشر بل كل حين اتبعوا الخير بعضكم لبعض وللجميع " (1تس5: 15)، " غير مجازين عن شر بشر أو عن شتيمة بشتيمة بل بالعكس مباركين عالمين أنكم لهذا دعيتم لكي ترثوا بركة " (1بط3: 9). وبالنظر إلى محتوى تيس عزازيل في مكة نرى الكاتب قد خالف تعاليم المسيحية في جوهرها!! فكان على الكاتب أن يلتزم النقد الأدبي ويعرف جيدا ما هو منهج الكاتب وأسلوب تفكيره وما هو هدفه من الكتابة، ولكني أجزم أن كاتب تيس عزازيل في مكة لم يقرأ رواية عزازيل أو على الأقل قرأها قراء سطحية متسرعة فأنفعل وكتب ما كتب بشكل انفعالي بعيد تماما عن المنطق وفهم محتوى الرواية ومنهج كاتبها وما الذي يهدف إليه.

وقد أعتمد كاتب تيس عزازيل من ضمن ما اعتمد عليه على ما يعرف بوثيقة بحيرا الراهب والتي تقول أن بحيرا الراهب هو من دفع نبي المسلمين للنبوة وأنه كان هو ملهمه الذي ألهمه القرآن وأن محمدا كان يسأله في كل شيء وأن بحيرا كان يقول له قل كذا وكذا!! هكذا بأسلوب لا يقبله طفل في كتاب من معلمه!! وهذه الوثيقة التي تقول بعض مواقع النت أن أصلها سرياني وأن ما هو منشور منها مترجم إلى العربية لا يمكن أن تكون وثيقة حقيقية فهي إحدى مزيفات القرون الوسطى مثلها مثل إنجيل برنابا المزيف وغيرهما من مزيفات العصور الوسطى العديدة. حيث تجمع جميع المصادر الإسلامية على أن شخصية بحيرا الراهب لم يكن لها أي وجود وقت بدء الدعوة للإسلام ولا أثنائها، وتروى عنه روايات لا يمكن أن نتأكد منها إلا من شيء واحد فقط وهو أنه كان هناك راهب باسم بحيرا عرفه التجار العرب في الطريق بين مكة والشام قبل بدء الدعوة للإسلام. وما يروى عنه قليل جدا ويتلخص فقط في ثلاثة روايات متكررة بأشكال متنوعة أهمها ما جاء في تفسير البحر المحيط ج 9: 27 ونظم الدر للبقاعي ج2: 448، وتفسير النيسابوري ج 3: 199 والتحرير والتنوير ج 4: 271و5: 23 وتفسير حقي ج 3: 315 وأسباب نزول القرآن ج 1: 72، رواية تقول أنه أحد الذين اعتنقوا الإسلام: " وبحيرا الراهب، أو النجاشي، أو سلمان الفارسي. وابن سلام، وأبو رفاعة، وابنه في عشرة من اليهود أسلموا ". ولكن هذه الرواية لا يمكن أن تكون منطقية لأنها تخالف أهم الروايات والتي يأخذها الكتُّاب عن سيرة ابن أسحق أقدم سيرة كتبت عن نبي المسلمين.

وجاء في كتاب المقاصد الحسنة ج 1: 35 الرواية التالية والتي تكررت مع فروق بسيطة في كتب كثيرة منها (دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني1: 125، وحلية الأولياء 2: 116، وسبل الهدى والرشاد 2: 244، والاستيعاب في معرفة الأصحاب 1: 12، والإصابة في معرفة الصحابة 1: 92، والوافي بالوفيات 1: 26 00 الخ): " ووقع في خروجه مع عمه إلى الشام وقصة بحيرا الراهب مما أورده ابن إسحق معضلاً ففيها: فلما نزلوا قريباً من صومعة بحيرا صنع لهم طعاماً كثيراً وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته، يزعمون أنه رأى رسول الله (صلعم) حين أقبلوا وعمامة تظله من بين القوم ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريباً منه فنظر إلى الغمامة حين أظلته الشجرة وتقصرت أغصان الشجرة على رسول الله (صلعم) حين استظل تحتها، القصة. ووصله البيهقي في الدلائل وأبو بكر الخرائطي واللفظ له من طريق قراد أبي نوح حدثنا يونس عن أبي إسحق السبيعي عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال: خرج أبو طالب إلى الشام ومعه النبي (صلعم) في أشياء من قريش فلما أشرفوا على الراهب يعني بحيرا هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت قال: فنزل وهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله (صلعم)، وقال: هذا سيد العالمين، زاد البيهقي ورسول رب العالمين ابتعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ قريش: وما علمك، فقال: إنكم حين أشرفتم من الثنية لم يبق شجر ولا حجر، إلا خر ساجداً، ولا يسجدون إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه ". وفي رواية أخرى تقول: " فلما بلغ رسول الله. (صلعم) اثنتي عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام ارتحل به أبو طالب تاجرا نحو الشام فنزل " تيماء " فرآه حبر من اليهود يقال له " بحيرا " الراهب فقال: من هذا الغلام معك؟ فقال: هو ابن آخي فقال: أشفيقٌ عليه أنت؟ قال: نعم. قال: فوالله لئن قدمت به الشام ليقتلنه اليهود. فرجع به إلى مكة ". وهنا نراه راهبا مسيحيا وحبرا يهوديا!!

بل ووصفته بعض الروايات، أي بحيرا، بأن الله استودع فيه علمه ونوره فقد جاء في كتاب العظمة لأبي الشيخ الأصفهاني 3: 79 " فعند ذلك ملك كسرى بن قباذ فملك ستا وأربعين سنة وثمانية أشهر وولي أمر الله يومئذ في الأرض مرعيدا وأصحابه المؤمنون، فلما أراد الله تعالى أن يقبض مرعيدا أوحى إليه أن يستودع علم الله تعالى ونوره بحيرا الراهب ففعل، فعند ذلك ملك هرمز بن كسرى فملك اثنتي عشرة سنة وولي أمر الله عز وجل بحيرا الراهب وأصحابه المؤمنون، فعند ذلك ملك يزدجر بن كسرى فملك أربع سنين، فعند ذلك بعث الله تعالى محمدا (صلعم) تسليما كثيرا وعلى آله وعلى جميع الأنبياء والرسل، والحمد لله رب العالمين ".

وهذه الروايات جميعا لا يمكن الوثوق بها لسبب بسيط جدا وهو أن الروية الرئيسية فيها والتي نسبت لبحيرا كان شاهدها الرئيسي هو أبو طالب عم نبي المسلمين ولو كانت صحيحة لكان أول من آمن به ولكن كما تجمع الكتب الإسلامية أنه مات مشركا ولم يؤمن به حتى مات وقد أوردت عشرات الكتب ومنها السيرة النبوية لابن إسحاق ج 1: 85 والطبري ج14: 509 و510 وج19: 599 وابن كثير 4: 221 والرازي ج 8: 164 والوسيط لسيد طنطاوي 1: 2053 وأسباب النزول 1: 149 و228 وصحيح البخاري الأحاديث 1272 و 4307 و 4399 و 6187 وصحيح مسلم 35 وسنن النسائي 2008 و 22562 والطبقات الكبرى لابن سعد ج1: 122، الرواية التالية: " عن ‏سعيد بن المسيب عن ‏أبيه ‏قال " ‏لما حضرت ‏أبا طالب ‏الوفاة دخل عليه النبي (صلعم) ‏وعنده ‏أبو جهل ‏وعبد الله بن أبي أمية فقال أي عم قل لا إله إلا الله كلمة ‏أحاج ‏ ‏لك بها عند الله عز وجل فقال له ‏أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ‏يا ‏أبا طالب ‏ ‏أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزالا يكلمانه حتى كان آخر شيء كلمهم به على ‏ملة عبد المطلب ‏فقال له النبي (صلعم) ‏لاستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت " مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ " (التوبة: 113). ولو كانت هذه الروايات صحيحة، ولا يمكن أن تكون صحيحة فهي متضاربة والعلماء لا يثقون فيها، لكان عمه أبو طالب أول من آمن به. وكل ما يستفاد من هذه الروايات أنه كانت توجد شخصية باسم بحيرا قبل الدعوة للإسلام بسنوات، ولكن لم يكن لها أي وجود أثناء هذه الدعوة. وبالتالي فهذه الوثيقة المزعومة باسم وثيقة بحيرا مزيفة من مزيفات العصور الوسطى. كما أن الوثيقة تقول أن هذا الراهب كان يؤمن بالله الواحد في ثالوث وبلاهوت المسيح وصلبه وفدائه للبشرية حيث تقول مقدمة الوثيقة المزيفة: أنه عندما سأل نبي المسلمين بحيرا قائلاً: " فأنت لأي رب تعبد، فقلت (أي بحيرا) له: الله الأزلي، خالق السموات والأرض وما بينهما، فقال لي: من هذا حتى نعرفه ونعترف به، فقلت له: الله الأزلي الحي الذي لا يموت، الثالوث المقدس، الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد الصاباؤت 000 الخالق، الحي، الناطق بكلمته، المحيي بروحه، مثلث أقانيمه، واحد في جوهره، قال لي هذا تقليد عظيم لم تضبطه عقول قومي ولا تفهمه، وأريد أن تقصر عني الكلام، فقلت له القصد والمعبود كلمة الله الخالقة الأزلية، الواحد في الجوهر مع الآب وروح القدس، الممجد، الذي نزل من السماء وتجسد من روح القدس، ومن مريم العذراء وعمل الآيات وصعد إلى السموات "!! والكلام هنا عن عقيدة الله الواحد في ثالوث جاء القرآن بعكسه تماماً، حيث يقول: " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ " (المائدة: 73). فهل يعقل أن الراهب يؤمن بشيء ويعلم تلميذه بعكسه؟!!

وعند الكلام عن الدكتور يوسف زيدان وروايته عزازيل فلا يمكن أن نحسبه أو نحسب روايته على الإسلام أو المسلمين لأنه ليس عالم دين إسلامي ولا هو كاتب متطرف، بل برغم كونه أستاذاً للفلسفة الإسلامية فهو رجل فلسفة علماني، يؤمن بنظرية التطور في الدين حيث يرى أن علم اللاهوت في المسيحية هو تطوير لما قبله من فلسفات وأديان وأن علم الكلام الإسلامي هو تطوير لما اسماه باللاهوت المسيحي العربي، فقال في مقالته التي قدمها في مؤتمر القبطيات الأخير بالكاتدرائية بالعباسية: " نخرج من ذلك إلى تقرير، بل تأكيد، أن بواكير علم الكلام في صورته الأولى إبان القرن الأول الهجري؛ ظهرت في بيئةٍ (عربية) الثقافة، متحولةِ الديانة من (المسيحية) إلى (الإسلام) مع احتفاظها بثقافتها التي كانت سائدةً ثم راحت تتطوَّر ببطءٍ شأن أي ثقافة، وتتحول تدريجياً من دنيا المسيحية إلى العالم الإسلامي الذي بسط جناحه السياسي أولاً، ثم غرس عقائده الدينية ثانياً، وأخيراً صار مع الأيام (ثقافةً) للمنطقة، بمن فيها من عربٍ مسلمين، وعربٍ تمسَّكوا بالمسيحية بمذاهبها المختلفة، وعربٍ وفدوا من بعيد فتوطنوا وتشرَّبوا شيئاً فشيئاً (أعنى جيلاً بعد جيل) الثقافةَ العربية التي أعطت قبل الإسلام اللاهوتَ العربي، وأعطت مع الإسلام علمَ الكلام ".

وحاول الدكتور يوسف أن يصور لنا أن سكان سوريا والعراق وفلسطين كانوا عرب قبل الإسلام وخلط بينهم وبين عرب شبه الجزيرة العربية وتصور أن وجود مدرسة الرها والتي تأثر نسطور بفكرها الذي يلح على تمييز الطبيعتين، الإلهية والإنسانية، في شخص المسيح، لدرجة تقترب من الفصل بينهما وتصور لنا مسيحين مسيح إله ومسيح إنسان، هي كل ما كان يؤمن به مسيحيو هذه البلاد، مع أنهم كانوا الأقلية، وتجاهل أو جهل تماما أن الغالبية العظمى من المسيحيين في المنطقة كانوا مع بقية مسيحي أوربا وأفريقيا وجزر البحر المتوسط ضد أراء نسطور ومدرسة الرها، وأن الغالبية العظمى من المسيحيين في بلاد الشرق بل وشبه الجزيرة العربية في بداية القرن السابع الميلادي كانوا من الأرثوذكس والكاثوليك الذين أطلق عليهم وقتها اليعاقبة نسبة للقديس يعقوب أحد الذين دافعوا عن الأرثوذكسية في سوريا، والملكانيين نسبة لإيمانهم بنفس عقيدة الملك، أي الإمبراطور الروماني، وأن غالبية مسيحي اليمن في شبه الجزيرة العربية كانوا أرثوذكس وهم الذين تحاور معهم نبي المسلمين وعرف منهم أنهم يؤمنون بان المسيح هو ابن الله والله الظاهر في الجسد ورد عليهم بالقول: " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ 00 " (المائدة: 72)، " لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ 00" (المائدة: 73). كما كان سكان البادية العربية أما أرثوذكس أو كاثوليك. وكان النسطوريين موجودين في سواحل الخليج العربي في منطقة الأمارات العربية الآن، ولكن ليسو وحدهم بل مع الأرثوذكس والكاثوليك. كما تجاهل الدكتور يوسف، تماما، المسيحيين في أوربا (من بيزنطا (تركيا الآن) إلى بريطانيا في المحيط الأطلنطي) وشمال أفريقيا ومصر والذين كانوا جميعهم مع القديس كيرلس ضد أراء نسطور!! أي أن نسبة الذين كانوا مع القديس كيرلس ضد نطور أكثر من 9،9 إلى 9، %، ولم يمثل النسطوريين أكثر من 9، % بأي حال من الأحوال. بل ولم يكن مع نسطور حتى الأساقفة الذين كانوا خاضعين له كبطريرك لأنه خالف الإنجيل والتسليم الرسولي.

ويرى الدكتور يوسف زيدان أن ما تراه المسيحية هرطقة يراه من نصفهم بالهراطقة بالعكس وهكذا الأمر في الإسلام فيرى أن من يتهمهم المسلمين بالزندقة يرون هم العكس، وبرغم صحة ذلك عملياً، إلا أن من نصفهم بالهراطقة خالفوا الإعلان الإلهي ونص الكتاب والتسليم الرسولي واعتمدوا على المنهج الفلسفي وتأثروا بآراء الفلاسفة الوضعية والتي هي نتاج فكرهم وعقولهم وتجاهلوا الإعلان الإلهي تماماً! فهي نظرة رجل فلسفة مادية يأخذ بالمناهج الفلسفية فقط وآراء الفلاسفة الوضيعة ويتجاهل الإعلان الإلهي وليست نظرة رجل دين مستنير يأخذ بالنص الكتابي والتسليم الرسولي والمنطق العقلي الذي لا يتناقض مع الإعلان الإلهي!! والشيطان بالنسبة له ليس كما تقول المسيحية والإسلام أنه كائن حي مضاد للخير وسبب الشر في الكون بل يرى أن الشيطان لا وجود له إلا في خيال الإنسان!! فهو كما قال في حواره المنشور بالجريدة العدد الماضي، عندما سأله المحرر: وما دلالة اختيار عزازيل أو الشيطان؟ فقال: لتوجيه الأنظار إلى ما يضطرب في نفوسنا كبشر من انفعالات وعواطف وأحلام نحتفي ببعضها ونرتجف من بعضها الآخر مع أنها جميعا تعبر عن ذواتنا العميقة. من هنا قدمت الشيطان أو عزازيل بصورة مخالفة لما يرسمه الناس في أذهانهم من صورة نتفنن في جعلها " مشجب " كرغبتنا الممنوعة ". ويقول بلسان عزازيل في (ص 100 من الرواية): " يا هيبا قلت لك مرارا أني لا أجيء ولا أذهب. أنت الذي تجيء بي، حين تشاء. أنا آت إليك منك، وبك، وفيك. أني انبعث حين تريدني لأصوغ حلمك، أو أمد بساط خيالك، أو اقلب لك ما تدفنه من الذكريات. أنا أحمل أوزارك وأوهامك ". وفي (ص 245 و246)، يقول الراهب لعزازيل: " أسكت، وعُد أنت من حيث جئت 00 أيها الوجود الغامض المخايل ". فيقول عزازيل للراهب: - أعدني أنت، فأنت الذي أوجدتني - أنا لم أوجد أحد: أنا الآن احلم - إذاً، سوف يطول حلمك يا هيبا!- أنت تناديني بأسمى المشهور فما أسمك أنت؟- عزازيل.

بل وكما يرى أن الشيطان وهم يرى أيضا أن الله أيضاً وهم!! فهو لم يخلق الإنسان بل أن خيال الإنسان هو الذي خلق الله، فيقول في (ص349): " عزازيل نقيض الله المألوه 00 هذا ما قال لي همساً، بلغة أخرى غير اللغة السابقة التي لم أعرفها. غير أنني فهمت عبارته وهمت في معانيها 00 هو إذاً نقيض الإله، عرفناه، وعرفناه، الخير المحض. ولأن لكل شيء نقيض أفردنا للشر المحض كيان مناقض لما افترضناه أولاً، وسميناه عزازيل وأسماء كثيرة أخرى 00 قلت همساً: - لكنك يا عزازيل، سبب الشر في العالم. - يا هيبا كن عاقل، أنا مبررُ الشرور 00 هي التي تسببّنًُي. - ألم تزرع الفرقة بين الأساقفة؟ أعترف! - أنا أقترفُ ولا أعترفُ، فهذا ما يريدونه منى. - وأنت، إلا تريد شيء؟ - أنا يا هيبا أنت، وأنا هُم 00 تراني حاضر حيثما أردت، أو أردوا. فأنا حاضر دوماً لرفع الوزْر، ودفع الأصر، وتبرئه كل مُدان. أنا الإرادةُ والمريدُ والمرادُ، وأنا خادم العباد ومثير العباد إلى مطاردة خيوط أوهامهم. وفي (ص 348 – 350). ولكي يؤكد على حقيقة الفكرة الجوهرية في الرواية وهي أن كل من الله وعزازيل هما من اختراع الإنسان وخلقه!! فيقول: " هل خلق الله الإنسان أم العكس؟ ماذا تقصد؟ يا هيبا، الإنسان في كل عصر يخلق إلها له على هواه، فإلهه دوما على هواه وأحلامه المستحيلة ومُناه 000 أن الله محتجب في ذواتنا والإنسان عاجز عن الغوص لإدراكه! ولما ظن البعض في الزمن القديم، أنهم رسموا صورة للإله الكامل، ثم أدركوا أن الشر أصيل في العالم وموجوداً دوماً؛ أوجدوني (أي إبليس) لتبريره "!! وجعل عزازيل، أي إبليس يرفض أن يكون أصل الشر بل مبرر الشر الذي يفعله الإنسان ثم ينسبه لعزازيل: " أنا يا هيبا وأنت وهم 00 تراني حاضرا حيثما أردت، أو أرادوا. فأنا حاضر دائما لرفع الوزر، ودفع الإصر وتبرئة كل مدان. أنا الإرادة والمُريد والمُراد، وأنا خادم العباد، مثير العباد إلى مطاردة خيوط أوهامهم "!! والخلاصة هنا أنه يرى أن الله وهم والشيطان وهم وكلاهما من خلق الإنسان وفكره!!

وهنا قد يقول لي أحدهم أن هذا أبداع فني والكاتب حر فيما يبدع؟؟!! ونسأل هنا؛ ما هو الإبداع؟ وما مدى حريته في الكتابة؟ ولماذا رفض العالم الإسلامي وما أسماه الغرب بالإبداع في روايته التي تطاول فيها على الإسلام، وأعطى لها شهرة لا تستحقها؟ أم أن المبدع من حقه أن يبدع ويخوض في أمور العقيدة المسيحية فقط ويتكلم فيها بحسب فكره ومنهجه؟؟!! وهل فرضت شخصيات الرواية نفسها على الكاتب أم أنه هو الذي أبدعها ووضع على لسانها أفكاره وما يريد أن يعبر به عن فكره وفلسفته؟؟!! ولذا فكما رفض العالم الإسلامي ورفضنا معه رواية آيات شيطانية، نرفض ما كتبه كاتب تيس عزازيل في مكة ونرفض أيضاً ما كتبه الدكتور يوسف زيدان ومحاولة فرضه لوجهة نظره اللادينية التي ترفض الإيمان والوحي لصالح اللادينية. ولكن رفضنا هذا لا يعني المصادرة أو المحاكمة، بل أن نعلق عليها ونرد على ما نرى أنه افتراء على المسيحية وتاريخها، فمناقشة العقائد يجب أن تكون بالوثيقة والبرهان وليس بوضع الكلام على لسان شخصيات وهمية مثل بطل روايته الوهمي ووثائقه الوهمية. وليس من المنطق أن نثور على رواية رديئة نشرت على نطاق محدود على النت ونترك من يثير الفتنة الطائفية علانية في الصحافة والتليفزيون، أم رواية عزازيل فنحن كفيلين بالرد عليها وبيان ما بها أفكار مغلوطة وغير صحيحة بالأسلوب الأدبي والعلمي.

الصفحة الرئيسية